عائشة ولدحبيب (صحفية متخصصة في قضايا البيئة والصحة والمناخ)
بيروت، لبنان – في عالم تتسارع فيه آثار تغير المناخ وتتداخل الأزمات البيئية عبر الحدود، لم تعد العواصف الرملية والترابية مجرد ظاهرة مناخية محلية، بل تحوّلت إلى تحدٍ عالمي لا يعترف بحدود جغرافية. في قلب هذه الحقيقة المقلقة، استضاف بيت الأمم المتحدة في بيروت على مدار يومين (7 و 8أكتوبر 2025) منتدى رفيع المستوى شكّل نقطة انطلاق محورية لإعلان "عقد الأمم المتحدة لمكافحة العواصف الرملية والترابية (2025–2034)"، في تجمعٍ استثنائي نظمته اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) واللجنة الاقتصادية والاجتماعية لآسيا والمحيط الهادئ (الإسكاب)، بدعمٍ من حكومة السويد، وجمع نخبةً من واضعي السياسات والعلماء والخبراء من مختلف الدول.
كانت الرسالة المركزية التي انطلقت من بيروت واضحة وحاسمة، ولخصتها الأمينة التنفيذية للإسكوا، السيدة رولا دشتي، في كلمتها الافتتاحية: "لم تعد هذه ظاهرة موسمية؛ بل إنها أزمة عالمية تتطلب عملًا جماعيًا. فالعواصف الرملية والترابية لا تحترم الحدود، وإنها تهديدات عابرة للحدود وعلى الحلول أن تكون كذلك". وأشارت إلى أن هذا العقد الأممي الجديد “يهدف إلى توحيد الجهود بين الدول والمنظمات لتعزيز أنظمة الإنذار المبكر، وتحسين إدارة الموارد الطبيعية، والحد من مسببات التصحر”.
على مدار يومين من النقاشات المكثفة، دار الحديث حول العلاقة بين المناخ والصحة والبيئة، وحول ضرورة بناء شراكات علمية وصحية وتمويلية قادرة على مواجهة هذه الظاهرة التي تهدد حياة الملايين في المنطقة.
اليوم الأول: تشخيص الأزمة وتوحيد الرؤى
انطلق اليوم الأول بزخم كبير، حيث شهدت الجلسة الافتتاحية حضورًا دبلوماسيًا وعلميًا بارزًا، مما عكس الإدراك الدولي المتزايد لخطورة الموقف. إلى جانب السيدة دشتي، تحدثت السيدة أرميدا سالسيه أليسيجابانا، الأمينة التنفيذية للإسكاب، عبر الإنترنت من تايلند، مؤكدة على أن "التحدي معقد، لكن الطريق واضح. فبالعمل عبر القطاعات والمناطق، يمكننا حماية الأرواح وسبل العيش، وبناء مجتمعات مستدامة وقادرة على التكيّف".
عزز هذا التوجه سعادة السيد بدر الدفا، المبعوث الخاص للمناخ من وزارة الخارجية القطرية، وسعادة السيد تارسيسيو كوستا، سفير البرازيل في لبنان، مما أشار إلى أن المعركة ضد العواصف الرملية والترابية ليست مجرد قضية إقليمية، بل هي محور اهتمام عالمي يربط بين دول الجنوب والشمال.
نحو نهج متكامل لمواجهة الخطر متعدد الأوجه
سرعان ما انتقل النقاش من الإطار العام إلى صلب التحديات التقنية. تحت عنوان "تعزيز النهج المتكاملة"، كشفت حلقة النقاش رفيعة المستوى عن تعقيدات الأزمة. السيدة صديقه ترابي من إيران، والسيد قاسم يُنغون من تركيا، والسيد بسام عبد الجبار من العراق، والسيد شادي جوش من سوريا، قدموا شهادات حية من دول تقع في "حزام العواصف الترابية". لقد أوضحوا كيف أن هذه الظاهرة لم تعد تقتصر على تعطيل حركة الطيران أو تلويث الهواء، بل أصبحت تهدد البنية التحتية الزراعية، وتزيد من تدهور الأراضي، وتؤثر على إنتاجية المحاصيل في وقت حرج يعاني فيه العالم من أزمات غذائية متلاحقة.
من جانبه، قدّم السيد جمعان القحطاني من مركز الإنذار الإقليمي في السعودية رؤية تعتمد على التكنولوجيا والإنذار المبكر، مشددًا على أن التنبؤ الدقيق بمسار العواصف وكثافتها هو خط الدفاع الأول لحماية المدن والبنى التحتية الحيوية.
لكن الجزء الأكثر إلهامًا في هذه الجلسة كان حلقة "تسليط الضوء" على التعاون العابر للحدود. فقد قدمت السيدة دونيا رحمت الله من السودان لمحة عن الجهود البطولية في منطقة الصحراء والساحل، حيث تعمل المجتمعات المحلية على تثبيت التربة ومكافحة التصحر بوسائل بسيطة ومبتكرة. وفي المقابل، عرض السيد أحمد العنزي من السعودية الرؤية الطموحة لمبادرتي "السعودية الخضراء" و"الشرق الأوسط الأخضر"، اللتين تهدفان إلى إعادة تشجير مساحات شاسعة، مما يشكل حائط صد طبيعي ضد زحف الرمال. ومن منغوليا، التي تواجه عواصف شديدة تؤثر على جودة الهواء في مناطق بعيدة مثل شبه الجزيرة الكورية واليابان، تحدث السيد أويسانا بيامباسورين عن أهمية المبادرات الوطنية المقترنة بالتعاون الإقليمي كحل وحيد.
من التمويل والعلوم إلى التنفيذ الفعلي
إذا كان التشخيص دقيقًا، فإن السؤال الأهم يبقى: كيف نمول الحلول ونبنيها على أساس علمي متين؟ تناولت الجلسة الثالثة، "تسريع وتيرة التنفيذ"، هذا السؤال المحوري. شدد السيد أمجد المهدي من الصندوق الأخضر للمناخ على ضرورة تصميم مشاريع إقليمية متكاملة قادرة على جذب التمويل المناخي الدولي، وربط مكافحة العواصف الرملية بأهداف التكيف مع تغير المناخ.
وتحدث السيد خليفة الجلالي من تونس عن الخبرة العريقة لبلاده في إعادة التشجير وتثبيت الكثبان الرملية، وهي تجربة يمكن استنساخها في مناطق أخرى. بينما أضاف السيد جينلي فنغ من الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (IRENA) بُعدًا جديدًا، مشيرًا إلى كيف يمكن لمشاريع الطاقة المتجددة، مثل مزارع الطاقة الشمسية، أن تساهم في تثبيت التربة وتقليل تدهور الأراضي في المناطق القاحلة، كما هو الحال في الصين.
أما الجلسة الرابعة، فقد كانت مخصصة بالكامل لتعزيز التعاون العلمي والبحثي، وهو العمود الفقري لأي استراتيجية ناجحة. قدمت السيدة سارة باسات من المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO) لمحة عن نظام الإنذار بتقييم العواصف الرملية والترابية (SDS-WAS)، وهو أداة عالمية لتوفير التنبؤات الدقيقة. وسلّط الدكتور علي الحمود من جامعة هارفارد الضوء على أهمية البحث العلمي المشترك بين الدول، مستشهدًا بالتعاون الواعد بين الكويت والعراق لدراسة مصادر العواصف وآثارها الصحية. كما قدم كل من الدكتور رأفت عطا الله من مصر والدكتور حسين هاشمي من جامعة لوند بالسويد رؤى علمية حول تقنيات تثبيت الرمال وتأثير الجفاف على الزراعة، مؤكدين أن الحلول يجب أن تكون مبنية على فهم عميق للنظم البيئية المحلية وتفاعلها مع التغيرات المناخية والتأكيد على ضرورة التركيز على دراسة العواصف الرملية مثل كل المجالات الأخرى خاصة فيما يتعلق بـ" حركة الرمال".
وجه صحي لأزمة العواصف الرملية والترابية
في جلسة خاصة حول البعد الصحي للعواصف الرملية، قدّم علاء الشيخ، مسؤول الصحة العامة في منظمة الصحة العالمية (WHO) – الأردن، مداخلة قدم فيها تجربة الأردن مع القطاعات الصحية واشراكها في مرحلة التنفيذ لتعزيز علاقة الصحة واهمية التوعية والتدريب في هذا الجانب، كما نوه لضرورة إيجاد حلول للثغرات في البيانات ووضع خطط وطنية عمومية وتنفيذها مع الخبراء الصحيين وتزويد أصحاب المصلحة. من جه اخرى حذّر فيها علاء الشيخ من “الارتفاع المقلق في الأمراض التنفسية المرتبطة بجسيمات الغبار الدقيقة في هواء المدن العربية، وأشار الى التأثيرات الصحية الأخرى للعواصف الرملية.
وأوضح أن هذه الجسيمات تتغلغل في الجهاز التنفسي مسببة التهابات مزمنة وأزمات ربو وأمراضًا قلبية، وأن “الأطفال وكبار السن ومرضى الربو هم الفئات الأكثر هشاشة أمام هذا التهديد البيئي”.
وأشار الشيخ إلى أن منظمة الصحة العالمية تعمل حاليًا مع وزارات الصحة في عدد من الدول العربية على دمج “العواصف الرملية والترابية ضمن استراتيجيات التكيّف الصحي مع تغيّر المناخ”، كما فعلت الأردن مؤخرًا، بحيث تتضمن الخطط الصحية الوطنية بروتوكولات للتعامل مع حالات الطوارئ الناتجة عن ارتفاع مستويات الغبار في الهواء.وأضاف الوقاية تبدأ من الوعي المجتمعي، ومن تفعيل الإنذار المبكر الذي يربط بين مؤشرات الطقس والإنذارات الصحية.”
حلول قائمة على الطبيعة... وتجارب عربية ميدانية
وفي محور آخر، تناولت الجلسات تجارب الدول في الحد من الظاهرة من خلال النهج المتكاملة لإدارة الأراضي ومكافحة التصحر.
عرضت إيران برنامجها الوطني لتثبيت الكثبان الرملية باستخدام النباتات المحلية، بينما تحدثت تركيا عن مشاريع لإعادة تأهيل الغطاء النباتي في مناطقها الجافة. وشارك جمان القحطاني من المركز الخليجي للإنذار بالعواصف الرملية في السعودية، بعرض لتقنيات التنبؤ المبكر التي طورتها المملكة.
أما العراق فقدّم ممثله بسام عبد الجبار من وزارة الزراعة، تجربة بلاده في استصلاح الأراضي الجافة التي تُعد مصدرًا أساسيًا لانبعاث العواصف.
وفي جلسة “التعاون العابر للحدود”، تناولت السودان والسعودية ومنغوليا الجهود الدولية في التشجير واستعادة النظم البيئية المتدهورة. وتحدث أحمد العنزي من المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي بالسعودية عن مبادرة “الشرق الأوسط الأخضر” التي تهدف إلى “زرع 50 مليار شجرة في المنطقة لتحسين جودة الهواء وتقليل الغبار العالق”.
مشروع “وقاية” ... تجربة عربية رائدة
من بين التجارب التي لفتت الأنظار خلال المنتدى، مشروع "وقاية" (Wiqaya) الذي ينفذه المعهد الدولي لإدارة المياه (IWMI) في الأردن والعراق. والذي يسعى الى فتح شراكات بين الأطراف
قال ممثل المعهد، ميتشل ماكتوف، إن المشروع “يجمع بين الحكومات والمجتمعات المحلية لتطبيق حلول قائمة على الطبيعة من خلال استعادة الأهوار والمسطحات المائية التي تعمل كمصدّ طبيعي للغبار.” وأضاف في حديثه عن ان إدارة المياه لها علاقة بالتصحر والعواصف الرملية.وأكد أن “الاستثمار في الطبيعة هو استثمار في الصحة العامة، لأن حماية الأراضي والمياه تعني حماية الهواء الذي نتنفسه.”
التمويل والابتكار العلمي
ناقشت الجلسات أيضا سبل تعبئة الموارد المالية والتكنولوجية لتنفيذ المشاريع الإقليمية.وتحدث ممثلو الصندوق الأخضر للمناخ (GCF) والوكالة الدولية للطاقة المتجددة (IRENA) عن إمكانية استخدام الطاقة النظيفة في تثبيت الرمال وتحسين استدامة الأراضي الزراعية.
كما أكّد خليفة جلالي من وزارة الفلاحة في تونس، أن “إعادة التشجير ليست مجرد مشروع بيئي، بل وسيلة لتقليل الانبعاثات وتحسين صحة السكان في المناطق الريفية.”
ففي اليوم الثاني ركّزت الجلسات الاخرى على الشراكات بين القطاعين العام والخاص. وقال زياد خياط من الإسكوا إن مبادرة “ندرة المياه” التي تقودها المنظمة تمثل “نموذجًا عمليًا لتكامل المياه والأرض في السياسات المناخية”، مشددًا على أن الإدارة السليمة للمياه تساهم بشكل مباشر في الحد من مصادر الغبار.
نسج شبكات التعاون وتحويل الالتزامات إلى واقع
انتقل المنتدى من وضع الأطر النظرية إلى استكشاف آليات التنفيذ العملية. ركزت الجلسات على كيفية بناء شراكات فعالة وتفعيل التعاون متعدد الأطراف، وهو جوهر مواجهة تهديد عابر للحدود.
من جهته، تحدث السيد أفشين كلانتري من موئل الأمم المتحدة (UN-Habitat) عن دور البلديات والمدن كخط دفاع أول، واقترح إنشاء شبكة للمدن المتأثرة لتبادل الخبرات وأفضل الممارسات في التخطيط الحضري المستدام. وربط السيد زياد خياط من الإسكوا بين أزمة العواصف الرملية ومبادرة ندرة المياه، موضحًا أن تدهور الأراضي وجفاف المسطحات المائية هما من المسببات الرئيسية لانبعاث الغبار.
دمج الأزمة في الأطر الدولية.. تعاون متعدد الأطراف
في الجلسة السادسة، التي حملت عنوان “التعاون متعدد الأطراف لدفع عقد الأمم المتحدة”، شاركت منظمات الأمم المتحدة في عرض استراتيجياتها المشتركة.
قالت فروزسينا ستراوس من برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) إن البرنامج يعمل على “وضع مؤشرات لقياس مخاطر العواصف الرملية ضمن إطار رصد الكوارث العالمي.”
بينما أكدت أنوم زهرة من اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ (UNFCCC) أن إدماج ظاهرة العواصف الرملية في المساهمات المحددة وطنيًا (NDCs) يمثل “خطوة أساسية نحو التعامل مع آثارها الصحية والمناخية في آن واحد.”
أما ممثل الفاو (FAO)، فراس زيادات، فأوضح أن المنظمة تدعم مشاريع في شمال إفريقيا لتعزيز الإدارة المتكاملة للأراضي، مشيرًا إلى أن “العواصف الرملية ليست قدرًا بيئيًا، بل نتيجة لفقدان التربة والتنوع النباتي.”
الاستنتاجات والطريق إلى الأمام: عقد من العمل الحاسم
اختُتم المنتدى بجلسة ترأستها كل من كارول شوشاني شرفان (الإسكوا) وليتيزيا روسانو (الإسكاب)، حيث أجمعت التوصيات على:
- ضرورة إنشاء مرصد إقليمي للعواصف الرملية يربط بين البيانات المناخية والصحية.
- إدماج القطاع الصحي ضمن خطط إدارة الكوارث البيئية.
- تعزيز التعاون البحثي العربي–الآسيوي في مجالات جودة الهواء والتنبؤ الجوي.
- الاستثمار في الحلول القائمة على الطبيعة كالتشجير واستصلاح الأراضي.
- تطوير برامج التوعية المجتمعية لحماية الفئات الأكثر هشاشة.
- يجب الاعتراف بالعواصف الرملية والترابية كأزمة مناخية وصحية وبيئية متكاملة، وليس مجرد ظاهرة جوية.
- الاستثمار في العلم: توسيع شبكات الرصد والإنذار المبكر، ودعم الأبحاث المشتركة لفهم مصادر العواصف وتأثيراتها بدقة.
- ابتكار آليات تمويل جديدة، وربط المشاريع بالأهداف المناخية العالمية لجذب الاستثمارات من الصناديق الدولية مثل الصندوق الأخضر للمناخ.
- التعاون الإقليمي المؤسسي: إنشاء منصات إقليمية دائمة لتبادل البيانات والخبرات وتنسيق السياسات بين الدول المتجاورة.
- الحلول القائمة على الطبيعة: إعطاء الأولوية لمشاريع إعادة التشجير، وإدارة المراعي المستدامة، واستعادة الأراضي المتدهورة كحلول طويلة الأمد.
لقد اختتم منتدى بيروت أعماله، لكن صداه سيظلّ يتردد طويلاً في أروقة صانعي القرار ومراكز البحث العلمي.فهو لم يكن مجرد مؤتمر أممي آخر، بل إعلان انطلاق مرحلة جديدة من العمل الجماعي لمكافحة "العدو الأصفر" الذي يزحف بصمت عبر القارات، حاملاً معه آثارًا صحية وبيئية واقتصادية متشابكة.
ومع إطلاق عقد الأمم المتحدة لمكافحة العواصف الرملية والترابية (2025–2034)، باتت الرسالة واضحة:إن مواجهة هذه الأزمة ليست ترفًا بيئيًا، بل ضرورة وجودية لحماية صحتنا، وضمان أمننا الغذائي، وصون مستقبل كوكبنا المشترك.من بيروت، انطلقت الدعوة لتوحيد الجهود بين العلم والصحة والبيئة والابتكار.