بقلم: لورا السدران - السعودية
كل صباح، عندما أتجول بين أروقة "المركز الوطني للوقاية من الآفات النباتية"، لا أرى نفسي مجرد باحثة، بل أرى نفسي حارسة على إرث ومستقبل. في كل سعفة نخلة وكل حبة تمر، تكمن قصة صمود وهوية واقتصاد. لكن هذه القصة تواجه اليوم فصولاً جديدة مليئة بالتحديات؛ فصولاً كتبتها ندرة المياه وقسوة المناخ. كباحثة، وظيفتي هي البحث عن حلول. وكصحفية علمية، أرى أن واجبي هو أن أروي لكم قصة هذا البحث، قصة الأمل الذي نصنعه في مختبراتنا.
فجوة مؤلمة في المعرفة العالمية
دعوني أصارحكم بحقيقة قد لا يدركها الكثيرون. عندما يبحث المجتمع العلمي العالمي عن حلول زراعية ذكية، غالباً ما تتجه عدساته نحو حقول الذرة الشاسعة في أمريكا أو مزارع القمح في أوروبا. التقنيات تُطوّر، والبيانات تُجمع، والذكاء الاصطناعي يُدرّب على خدمة تلك المحاصيل. لكن هنا، في قلب شبه الجزيرة العربية، محاصيلنا الاستراتيجية - نخيل التمر الأيقوني، وأشجار الزيتون المباركة، وحبوبنا المحلية الأصيلة - كانت تعيش في ظل هذا التقدم، كأنها شخصيات ثانوية في رواية الزراعة العالمية.
هذه الفجوة لم تكن مجرد فجوة أكاديمية، بل كانت جرحاً في قلب أمننا الغذائي. فالمزارع لدينا كان يعتمد على خبرته وعينه المجردة، وهي أدوات ثمينة لكنها قاصرة أمام التحديات الحديثة. كيف يمكن لعين بشرية أن تكتشف عطش نخلة قبل أن تبدأ أوراقها بالاصفرار؟ كيف لها أن ترصد بؤرة مرض دقيقة في حقل يمتد على مساحة هكتارات قبل أن يتحول إلى وباء؟ لقد كنا نخوض معركة حديثة بأسلحة تقليدية.
ولادة فكرة.. عيون لا تخطئ في السماء
من هنا، بدأت رحلتي أنا وزميلتي شهد المطيري ، طرحنا سؤالاً جريئاً: ماذا لو استطعنا أن نمنح مزارعينا عيوناً جديدة؟ عيوناً لا ترى فقط ما هو مرئي، بل ما هو خفي. عيوناً تحلق فوق الحقول، وتقرأ لغة النباتات التي لا نفهمها.
كانت إجابتنا تكمن في السماء. لقد صممنا نظاماً متكاملاً يعتمد على أسطول من الطائرات بدون طيار ( الدرون)، لكنها ليست مجرد طائرات تحمل كاميرات عادية. لقد قمنا بتزويدها بأجهزة استشعار متطورة:
- العيون متعددة الأطياف: تخيل أنك تنظر إلى ورقة نبات وترى اللون الأخضر فقط. هذه الكاميرات ترى مئات الأطياف اللونية غير المرئية لنا. إنها تقيس صحة النبات على المستوى الخلوي، عبر تحليل تفاعله مع ضوء الشمس. يمكننا من خلالها أن نعرف ما إذا كان النبات يقوم بعملية البناء الضوئي بكفاءة أم أنه يعاني من نقص في العناصر الغذائية.
- العيون الحرارية: هذه هي أداتنا لكشف "عطش" النبات. عندما يكون النبات بصحة جيدة ويحصل على كفايته من الماء، فإنه يبرد نفسه بعملية "النتح"، تماماً كما نتعرق نحن. أما النبات الذي يعاني من الإجهاد المائي، فترتفع درجة حرارة أوراقه بشكل طفيف. هذا الارتفاع، الذي قد لا يتجاوز درجة مئوية واحدة، لا يمكن ملاحظته باللمس، لكن كاميراتنا الحرارية ترصده من ارتفاع عشرات الأمتار بدقة مذهلة. إنه بمثابة قياس "حمى" النبات.
من الصور إلى التشخيص.. عندما بدأ الذكاء الاصطناعي يتكلم العربية
جمع آلاف الصور لم يكن سوى نصف المهمة. التحدي الأكبر كان في تعليم الآلة كيف تفهم هذه الصور، وتحديداً، كيف تفهم سياق محاصيلنا المحلية. لقد قمنا ببناء واحدة من أوائل قواعد البيانات المتخصصة لنخيل التمر والمحاصيل الإقليمية الأخرى. قضينا وقتاً طويلاً في "تغذية" نماذج الذكاء الاصطناعي التي طورناها بهذه الصور، وربط كل صورة ببيانات حقيقية من الحقل.
كنا نقول للآلة: "انظري، هذا النمط في الطيف اللوني يعني بداية إصابة بسوسة النخيل الحمراء"، أو "هذا التوقيع الحراري يعني أن هذه المنطقة من الحقل لم تحصل على كفايتها من الري بالأمس". شيئاً فشيئاً، بدأ "العقل الرقمي" يتعلم. اللحظة التي لن أنساها كانت عندما أشار نظامنا إلى مجموعة من النخيل على أنها تعاني من إجهاد مائي مبكر، وعندما ذهب فريقنا لفحصها ميدانياً، وجدوا أن نظام الري في تلك البقعة كان يعاني من خلل بسيط لم يكن ليُكتشف لولا هذا التنبيه. في تلك اللحظة، أدركت أننا لم نعد نجمع بيانات فقط، بل كنا نبني حواراً بين الإنسان والآلة والنبات.
القصة الأكبر.. ما وراء الحقول
إن عملنا هذا يتجاوز مجرد زيادة إنتاجية التمور. إنه يصب في قلب الرؤية الأوسع لمستقبلنا. فكل قطرة ماء نوفرها باستخدام الري الدقيق الموجه ببياناتنا، هي قطرة تُضاف إلى رصيد أمننا المائي. وكل استخدام للمبيدات نتجنبه لأننا استهدفنا الإصابة في مهدها، هو خطوة نحو غذاء أكثر صحة وبيئة أكثر نظافة.
هذه التقنية تمنح المزارع الصغير نفس القدرات التي تمتلكها الشركات الزراعية الكبرى، مما يعزز صمود مجتمعاتنا الريفية. إنها أداة لتحقيق الاستدامة، ودرع في مواجهة تغير المناخ، ومساهمة مباشرة في تحقيق أهداف مبادرة السعودية الخضراء.
كباحثة سعودية، فخورة بالدقة العلمية التي حققناها. وبروح الصحفية أروي قصص العلوم ونتائجها ، أنا أكثر فخراً بأننا نكتب فصلاً جديداً في قصة الزراعة في صحرائنا، فصلاً عنوانه الذكاء والأمل والاستدامة.