الماء والذاكرة الجماعية: واحة أقا نموذجا لصراع الموارد و الهوية


الأحد 7 ديسمبر 2025

الماء والذاكرة الجماعية: واحة أقا نموذجا لصراع الموارد و الهوية

لاشك في ان قضية الماء في المغرب قضية سياسية شأنها شأن باقي المجتمعات الانسانية الاخرى غير انه يمكن تقديم قضية الماء ايضا كمسألة اجتماعية و ثقافية في الان نفسه، حيث أن تاريخ المغرب و بنية مؤسساته الاجتماعية كانت مرتبطة دائما بقضية الماء[1] لقد تم تأكيد ذلك من خلال معطيات نصوص تاريخية التي تناولت المغرب و التي أشير فيها  -على سبيل- المثال حول الصراع القبائلي حول الماء و باقي الموارد المرتبطة به. لم تكن مسألة الماء في المغرب يوما مسألة طبيعية صرفة لقد كانت دائما مسألة  تهم  الجماعة وقد شكلت هذه القضية ساحة يطلق من خلالها المجتمع اماله و مخاوفه.

وإذا انتقلنا إلى الأقاليم الجنوبية في المغرب، وخصوصًا في أقصى الجنوب، نجد أن الماء لا يشكّل فقط عنصرًا ماديًا ضروريًا للحياة، بل يتحوّل إلى مكوّن للذاكرة الجماعية، ومحدّد للعلاقات الاجتماعية، وموجّه لمسارات التنظيم السياسي والاقتصادي داخل الجماعة. فالممارسات التقليدية لتدبير الماء، والطقوس المرتبطة بالعيون والآبار، وأنظمة التوزيع العرفية، هي جزء من هوية ما زالت ترسم ملامحها حتى اليوم، رغم كل ما عرفته من تحوّلات بيئية واقتصادية.

غير أن هذه الذاكرة الجماعية بكل كثافتها ورمزيتها تواجه اليوم تحديات جديدة. فالتغيرات المناخية، وتراجع الموارد المائية، والتحوّل في نمط العيش المحلي، إضافة إلى الواقع التنموي الذي يشهده جنوب المغرب بشكل عام وواحة أقا بشكل خاص… كلها عوامل تعيد تشكيل علاقة السكان بالماء، وتضعهم أمام أسئلة عميقة حول الحقّ في الموارد، والإنصاف البيئي، ومستقبل العيش في مناطق طالما اعتمدت على توازن يتقاطع فيه الإنسان والمجال.

في هذا المقال نستعيد قصصًا وشهادات من سكان منطقة أقا بأقصى جنوب المغرب، حيث يتحوّل الماء إلى مرآة تعكس القلق اليومي، وتكشف عن اختلالات في تدبير الموارد، وعن تحوّلات تضرب في الصميم أسلوب حياة استمر لأجيال. ومن خلال هذه الشهادات، نقترب من صورة أوضح لمسألة الماء كحقّ، وكذاكرة، وكموضوع للصراع والصمود، لنفهم كيف يواجه المواطنون –نساءً ورجالًا– جفاف العيون، وتراجع الواحات، وتغيّر علاقتهم بمورد يشكّل أساس كرامتهم ووجودهم.

Image1.jpg

أصوات من واحة أقا: الماء كذاكرة مشتركة و معيش يومي

عندما نتتبّع أثر الماء في واحة أقا اليوم، تظهر الذاكرة الجماعية ليس كحكاية بعيدة، بل كجزء حاضر في حديث الناس وتجاربهم. هشام بنشيخ، أحد أبناء الواحة، يستعيد السنوات التي لم تكن بعيدة –على حدّ تعبيره– حين كانت العيون تجري والحقول خضراء. بل يقول إنه كان يكفي أن تجلس قرب إحدى العيون لتفهم كيف كان المجتمع يتشكّل حول الماء: لقاءات يومية، تعاون، وتقاسم طبيعي للموارد. ولهذا، فكلّما نضب ماء إحدى العيون، يشعر السكان بأنهم يفقدون شيئًا من أنفسهم، لا موردًا فقط. ويرى هشام أن التحوّلات التي عرفتها الزراعة في السنوات الأخيرة، خصوصًا توسّع زراعة الدلاح، رفعت الضغط على الفرشة المائية.

لكن في اعتقاده أن ما يزيد الإحساس بالاختلال هو غياب الوضوح في تدبير الرخص ومنح الامتيازات، حيث يستفيد القادمون من خارج المنطقة، بينما يواجه أبناء الواحة صعوبات في الوصول إلى الماء. (انتهت شهادة هشام بنشيخ)وفي شهادة أخرى للأستاذ علي الدياني (أستاذ التاريخ والجغرافيا) ابن منطقة واحة أقا، والذي يتابع تغيّرات المجال منذ سنوات، يقدّم علي ملاحظة بسيطة لكنها كاشفة: عمق المياه اليوم يتجاوز في أماكن كثيرة مائة متر، بينما كان الناس قبل عقدين لا يحفرون أكثر من عشرات الأمتار. هذه المسافة ليست رقمًا أو مؤشرًا فقط، بل تعبّر في الحقيقة عن تحوّل جذري في علاقة المجتمع بالماء، وعن تراجع طرق السقي التقليدية التي كانت تحفظ التوازن بين الإنسان ومجاله.وتأتي شهادة الدكتورة الغالية الحرش، ابنة المنطقة كذلك، لتُظهر لنا جانبًا قلّما يُذكر والمتعلق بأثر الأزمة على النساء.

 تشير د. الغالية الحرش إلى أن النساء في الواحة يتحمّلن الوزر الأكبر من التبعات اليومية لأزمة المياه: المشي لمسافات أطول لجلب الماء، تراجع دورهن في القرارات المرتبطة بتدبيره، وصعوبة نقل المعارف والعادات المرتبطة بالماء إلى الجيل الجديد. بالنسبة لـ الغالية، فإن الحديث عن الماء هو حديث عن استمرارية ذاكرة نسائية تُهدَّد بالانقطاع. بين الحاجة والضغط: زراعة الدلاح من منظور أهالي واحة أقالا يرى جميع سكان واحة أقا زراعة الدلاح بالنظرة نفسها. فالسيد سعيد بهانكا، الذي يعرّف نفسه كمناضل في الواحة، يرى من خلال معايشته للوضع عن قرب أن المسألة ليست بسيطة. فمن وجهة نظره، فإن الدلاح الأحمر، رغم كونه يستهلك كميات كبيرة من المياه، يخلق في المقابل فرص شغل ويوفّر دخلًا للعديد من الأسر في سنوات كان فيها غياب الدولة أكثر وضوحًا من أي وقت مضى.


بالنسبة لـ سعيد، فالمشكلة الأساسية ليست في نوع الزراعة –ويقصد الدلاح– بل في الطريقة التي تُدار بها الموارد، وفيمن يملك حق اتخاذ القرار، على حدّ تعبيره. (انتهت الشهادة)هذا التباين في الآراء يكشف بشكل ملموس تعقّد العلاقة بين الساكنة والمجال، ويمتد ليطرح أسئلة تتعلق بالعدالة التمثيلية وحق السكان في تقرير مصيرهم. 

من داخل التجربة النسائية : الماء كمعركة يومية

"فاطمة الزهراء ولد بلعيد (سيمان)"  لقد ربطت الناشطة  "سيمان" أزمة الماء بسياسات أوسع اذ تقول أن الماء

أصبح موردا يتحكم فيه من يمتلك القوة الاقتصادية و السياسية، بينما يجد السكان أنفسهم في مواجهة الجفاف بلا أدوات، بالنسبة ل''سيمان'' فالدفاع عن الماء كمكتسب تاريخي هو دفاع عن الذاكرة الجماعية المشتركة و على قدرة المجتمع المحلي على الصمود.

تحذيرات قديمة لم تسمع

في حديث مع الاستاذ ''علي العلوي '' ذكر لنا أنه هناك بحث انجز من طرف" مهندس مكسيكي" سنة 2009 حول نظام السقي في أقا خلص البحث كما صرح الاستاذ ''علي'' على ان: أن الفرشة المائية ضعيفة و لا يمكن الاعتماد حتى للزراعة المعيشية كما نبه البحث ان بعض العيون مهددة بالاختفاء. و يضيف الاستاذ "علي" بأنه رغم وضع نسخة من التقرير في البلدية، فان هذه الاخيرة لم تتخذ اجراءات حقيقية في هذا الصدد. هذه الازمة كانت معروفة منذ وقت طويل لكن غياب التفاعل و حجب المعلومة جعلها تتفاقم الى ان صارت تهدد أسلوب الحياة نفسه.

تكشف شهادات سكان واحة أقا أن أزمة الماء هي نتيجة لمسار طويل من غياب الشفافية في اتخاذ القرارات،و تراجع ألية المشاركة التي كانت تشكل الأساس التاريخي لتنظيم الموارد داخل الواحة. ما يصرح به الناس اليوم هو استمرار لصوت جماعي كان دائما يحاول حماية مجاله.لكنه يجد نفسه خارج النقاشات الرسمية التي تحدد مستقبل الماء و كل السياسات المرتبطة به.

في السنوات الاخيرة تغيرت واحة أقا كثيرا حسب تعبير الشهادات، فمع انخفاض مستوى المياه الجوفية و تراجع العيون التي طالما شكلت مركزالحياة في الواحة اختفت أجزاء من المعارف التقليدية التي كانت تحفظ توازنا دقيقا بين الانسان و الطبيعة, و بالرغم من هذه التحولات، لا تزال السياسات المائية تصاغ بعيدا عن مطالب الفئات التي توجد في الاسفل و بعيدا عن التجارب اليومية للنساء و الرجال الذين يتعاملون مباشرة مع اثار الجفاف.

و بينما تتزايد اثار التغيرات المناخية تصبح الحاجة الى سياسات عادلة و شفافة أمرا ملحا. السياسات التي لا تكتفي بإدارة الندرة بل تضمن أن يكون للسكان رأي في كيفية توزيع الموارد، و أن يتم التعامل مع الماء كحق و ليس امتياز و لا موردا يفتح أمام البعض و يغلق في وجه الاخرين.

ان الذاكرة الجماعية التي تستعاد في شهادات سكان واحة أقا دعوة واضحة و صريحة الى حماية ما تبقى من الثروة المائية، و الى وضع الإنسان و البيئة في قلب القرار.

في النهاية ، ما تريده الساكنة هو أن يكون تدبير الماء مبنيا على المشاركة و المسؤولية و الانصاف، و ان يعامل المجال باعتباره فضاء للعيش المشترك.

 

تم  انجاز هذا العمل في اطار مشروع لمنظمة  المادة 19 بعنوان " الحق في الوصول الى المعلومات و القضايا البيئية في منطقة الشرق الاوسط و شمال افريقيا " و بدعم من جامعة أوسلو مترو بوليتان.

 

 إبراهيم الحاتمي

باحث متخصص في قضايا السيادة الغذائية والعدالة البيئية والمناخية 

 

هوامش:

1 فاطمة فائز ،ملامح من ثقافة الماء في الجنوب المغربي

 من خلال معجم المصطلحات المائية بالمغرب , مجلة الدراسات الامازيغية العدد 2 ، 2022  ص 55-70   [1]