يشهد الإقليم العربي تسارعًا لافتًا في النزوح المرتبط بالمناخ نتيجة موجات الحرارة الشديدة، وشُحّ المياه، وارتفاع مستوى البحر، والفيضانات والعواصف الغبارية. وتُظهر أدبيات أممية أن جزءًا متزايدًا من النزوح الداخلي عالميًا بات مدفوعًا بالكوارث المناخية، مع أرقام قياسية في 2023–2024 بحسب تقارير المرصد الدولي للنزوح (IDMC). هذا النمط لا يستثني الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تتقاطع الهشاشة المناخية مع التوسع الحضري السريع والضغوط على الموارد المائية، ما يخلق «مناطق طاردة» داخل الدول وأخرى «جاذبة» في الأودية الساحلية والمدن الكبرى.
تشير تقديرات تقرير “Groundswell” للبنك الدولي (2021) إلى احتمال وصول عدد النازحين داخليًا لأسباب مناخية في شمال أفريقيا إلى نحو 19 مليون شخص بحلول 2050 في السيناريوهات غير المتكيفة مع التغير المناخي، مع إمكان خفض الحجم جذريًا إذا جرت سياسات مبكرة للتكيّف والحد من الانبعاثات. هذه الهجرات تكون في معظمها داخل الحدود الوطنية وتتحرّك من المناطق الريفية المتدهورة بيئيًا إلى المدن. (1)
محرّكات النزوح في الإقليم تتوزّع على أربع مسارات رئيسية:
1. الإجهاد الحراريّ وشحّ المياه في المشرق العربي والعراق، وقد وثّقت مصفوفة تتبّع النزوح (IOM/DTM) نزوح عشرات الآلاف جنوبيَّ العراق خلال جفاف 2021–2023 بسبب الملوحة وتردّي نوعية المياه (2).
2. ارتفاع مستوى البحر وتآكل السواحل المتوسطية بما في ذلك دلتا النيل، حيث تُظهر دراسات حديثة تعاظم مخاطر الغمر الساحلي حتى 2100، ما يهدد الاستقرار السكاني والاقتصادي في المناطق المنخفضة (3).
3. تسارع الاحترار في البحر المتوسط وازدياد موجات الحرّ البحرية والفيضانات المفاجئة الساحلية، وهو ما يرفع تعرّض المجتمعات الساحلية والبنية التحتية (4).
4. تأثيرات مركّبة على الأطفال والشباب (تعطّل التعليم والصحة)، حيث سجّل عام 2024 اضطراب تعليم ما لا يقل عن 242 مليون طفل عالميًا بفعل أحداث مناخية متطرفة، مع تعرّضٍ بارزٍ في الشرق الأوسط وأقاليم مجاورة (5).
صورة تعبيرية مولدة بالذكاء الاصطناعي
محركات النزوح المناخي في اليمن والدول العربية
وفي التقرير الذي أعدته أمة عبد الرحمن حول محركات النزوح المناخي في اليمن والدول العربية تقول: لم يعد النزوح في اليمن والدول العربية نتيجة للحروب والصراعات وحدها، بل أصبحت التغيرات المناخية سببًا متزايدًا وراء ترك الناس لمنازلهم ومناطقهم الأصلية. الجفاف وندرة المياه والفيضانات والتصحر كلها عوامل جديدة تُسهم في تشكيل خريطة النزوح في المنطقة حيث تتحول البيئة إلى محرك أساسي للهجرة القسرية.
تعد أزمة المياه من أبرز هذه المحركات فاليمن وفقًا لتقرير المنظمة الدولية للهجرة (IOM) حول الهجرة والبيئة من أكثر دول العالم معاناة من ندرة المياه حيث يواجه أكثر من نصف السكان انعدامًا في الأمن المائي وقد تسببت هذه الأزمة في تراجع الزراعة والرعي، وهما مصدر الدخل الأساسي للمجتمعات الريفية مما أجبر العديد من الأسر على النزوح نحو المدن بحثًا عن فرص عيش أفضل.
وفي المنطقة العربية عمومًا يشير تقرير The Arab world at a crossroads إلى أن أغلب الدول تقع ضمن فئة “الإجهاد المائي العالي جدًا” مثل السعودية وسوريا واليمن والسودان، ما يجعلها من أكثر المناطق عرضة للنزوح المرتبط بالمناخ.
الكوارث السريعة مثل الفيضانات والسيول المفاجئة تشكل عاملًا آخر تقرير ACAPS (2024) يوثق أن الأمطار الغزيرة والسيول التي ضربت محافظات يمنية عدة منها (شبوة ومأرب والحديدة) تسببت في تدمير مئات المنازل ونزوح آلاف الأسر، هذه الكوارث تتكرر أيضًا في دول عربية أخرى، مثل فيضانات درنة في ليبيا وسيول السودان والمغرب التي كشفت ضعف البنية التحتية أمام التغيرات المناخية المفاجئة.
أما العمليات البطيئة مثل التصحر وارتفاع درجات الحرارة وتملح التربة، فهي لا تُحدث نزوحًا فوريًا لكنها تدفع السكان تدريجيًا لمغادرة أراضيهم. يوضح تقرير (Environmental Sciences Europe) أن أكثر من 60% من الأراضي الزراعية في الدول العربية مهددة بالتصحر ما ينعكس سلبًا على الأمن الغذائي وفرص العمل الريفية وبالتالي على الاستقرار السكاني في القرى والمناطق الزراعية.
ويقول محمد الوصابي، مختص بيئي من اليمن "يشهد اليمن والعديد من الدول العربية تزايدًا في ظاهرة النزوح السكاني الناتجة عن عوامل بيئية مرتبطة بالتغيرات المناخية، إلى جانب النزاعات من أبرز هذه العوامل الفيضانات والسيول المفاجئة والانهيارات الأرضية، والجفاف وندرة المياه، وارتفاع درجات الحرارة، والتدهور البيئي والتلوث، أزمة المياه تحديدًا أصبحت من أكثر الأسباب تأثيرًا فهي تؤدي إلى تراجع الإنتاج الزراعي وتدهور النظم البيئية وتفاقم النزاعات على الموارد، بل وحتى انتشار الأمراض بسبب نقص المياه النظيفة".
ويؤكد الوصابي أن مواجهة هذه الظاهرة تتطلب استثمارًا في الصمود المناخي وتطوير أنظمة إنذار مبكر وتحسين الممارسات الزراعية وتعزيز الوعي البيئي إضافة إلى الاستفادة من التمويل والتعاون الدولي.
تشير كل هذه المؤشرات إلى أن النزوح المناخي أصبح واقعًا ملموسًا في اليمن والمنطقة العربية ويتغذى على تداخل أزمات البيئة والاقتصاد والصراع مع غياب سياسات مناخية فاعلة، وأن موجات النزوح البيئي ستتوسع أكثر ما لم تُدرج قضايا المناخ ضمن أولويات التخطيط التنموي والاستجابة الإنسانية في المنطقة (6).
بؤر ساخنة وأنماط التعرّض للتغيرات المناخي
وجاء في التقرير الذي أعدته جيهان الحكيم حول البؤر الساخنة وأنماط التعرض للتغيرات المناخية تقول: على لسان السيدة آمنه سالم ناصر وهي معلمة تقطن في حي الفلاحين الحسوة مديرية البريقة في عدن، لم يكن منزلها المكون من طابق واحد مصنف بالعشوائية في منطقة الحسوة ولكنها وجدت نفسها من النازحين أثر السيول التي داهمت منزلها شهر أغسطس المنصرم، وانحصر الانذار بالسيل قبيل سويعات عبر ضرب الرصاص الحي في الجو من قبل القوات المسلحة لكنها لم تكن كفيلة بإيصال الانذار للسكان كونهم اعتادوها لأسباب مختلفة علمت امنه بالسيول وقد أصبحت بالقرب منها لتقم بنقل والدها طريح الفراش الى منطقة اكثر امان في نفس الحي لتنزح بعد يومين الى محافظة ابين واستقرت هناك ما يقارب 22 يوماً لتعود لمنزلها وتبدا بإعادة ترتيبه فهي لم تفقد فقط ممتلكاتها المنزلية فقدت أيضا بضائع تخص تجار تعمل معهم في بيعها وتكبدت عناء الديون كون عملها كمعلمة لا يغطى احتياجها بعد توقف مستحقات المعلمين لفترات طويلة.
أضافت بأن المنظمات حصرت المتضررين بتوزيع بعض الإعانات العينية شملت الوسائد والأغطية والفرش وتكفلت قوات درع الوطن بتوزيع سلل غذائية ومع ذلك اشتكت امنه من وضع شبكة الصرف الصحي كونها انتهت جراء السيول ما أدى لتكفل بعض السكان بمضخات الشفط للمجاري بدعم ذاتي لكن امنه لا تزال تناشد السلطات المعنية للاهتمام بالأمر.
وأوضح فؤاد احمد عوض رئيس اللجان المجتمعية في مديرية البريقة أن منطقة الحسوة أٌعلنت في أغسطس المنصرم منطقة تحت الأنقاض جراء السيول العارمة التي ضربت أربعة أحياء في المنطقة تمثلت بأحياء الفلاحين والصيادين والعند والفلاحين العند مخلفة 3000 متضرر بحسب ما رصده مكتب الإحصاء في وزارة التخطيط والتعاون الدولي اما وفق إحصائيات الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الاحمر فقد تأثرت 5394 أسرة و 37758 فردا وهناك 10 وفيات و إصابة واحدة جميع المتضررين من النازحين داخلياً، وقد قامت المديرية بتشكيل غرفة عمليات للإغاثة وسط الاحياء يمكن مكتبها في مدرسة الجوهري وتشكلت الاستجابة لنداء الاستغاثة التي اطلقتها السلطة المحلية بالحضور الميداني من قبل بعض المنظمات الدولية والمحلية بما يقارب 20 منظمة، فيما تشكلت لجان عدة بالتعاون مع مكتب الصحة والبيئة في وزارة الاشغال العامة والطرق للطوارئ وشفط المياه الراكدة والصحة وايضا التعاون مع صندوق النظافة و التحسين لفتح الخطوط.
وأشار فؤاد أن إعادة رصف الوادي الكبير للسيل يجري بجهود الأمم المتحدة بهدف تحويل المنطقة الى متنفس عام للحد من البناء العشوائي فيها. وختم فؤاد تصريحه بالوعود التي تقدمت لها الحكومة بتعويض المتضررين في وقت لاحق.
وصرح المهندس الزراعي محمد العامري عضو لجان مجتمعية في منطقة العريش قائلاً: جذبت كارثة السيول التي شهدها الوادي الكبير الانتباه بعد وقوعها رغم إن مصبه الأخير في البحر ولكن العشوائيات الحقت الضرر بالمنطقة، بينما يتم التغافل عن الوادي الصغير الذى يعج أيضا بالبناء العشوائي المتفرق في المنطقة وما يمكن أن يحدث إذا داهمته السيول مستقبلا كونه بدون مصب محدد أي أنه كلما زاد منسوب السيل تسبب في بعد الهدف وصولاً لإلحاق الضرر على امتداد مسيرته انطلاقا من منطقة الفيوش مرورا بعدة مناطق منها المدينة الخضراء ومدينة السلام ومصنع هايل والمحاريق والهناجر و غازي علوان والصولبان وصولا للعريش القديم ثم مطار عدن الدولي وبذلك يتطلب تدخل الجهات العلاقة ممثلة بالسلطة المحلية خور مكسر ووزارة الزراعة و الري وعمل دراسات لتحويل مجري السيل مباشرة للبحر عبر جيبونات قبل وصوله الى المناطق المذكورة سابقاً.
صورة تعبيرية مولدة بالذكاء الاصطناعي
لا مفر: على خطوط المواجهة مع تغير المناخ والصراع والنزوح القسري
وجاء في تعليق أورده أركان سعيد الوافي استند فيه إلى تقرير صادر عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أن ملايين الأشخاص حول العالم لا يزالون يُجبرون على الفرار من ديارهم بسبب العنف والصراعات والمخاطر المناخية. في الواقع، لم يسبق لعدد النازحين قسرًا في العالم أن بلغ هذا المستوى من قبل، إذ تضاعف ليتجاوز 120 مليون شخص خلال السنوات العشر الماضية.
بينما يظل الصراع هو الدافع الرئيسي للنزوح، فإن تغير المناخ قد يُفاقم واقعًا مُدمرًا أصلًا. تؤثر آثاره بشكل غير متناسب على الفئات الأكثر ضعفًا في العالم، بمن فيهم اللاجئون والنازحون داخليًا والمجتمعات التي تستضيفهم. وغالبًا ما يفتقر النازحون إلى الموارد الأساسية، كالسكن المستقر، والأمن المالي، والدعم المؤسسي، أو إمكانية الوصول إلى الخدمات الأساسية، ويكافحون الآن أيضًا للاستعداد للكوارث، كالفيضانات والجفاف وموجات الحر، أو التكيف معها، أو التعافي منها على مدى السنوات العشر الماضية، تسببت الكوارث المرتبطة بالطقس في نزوح 220 مليون شخص داخلياً - أي ما يعادل حوالي 60 ألف حالة نزوح يومياً.
دراسة حالة: حين يفرض الجفاف نزوحًا صامتًا في ريف لحج وأبين
وقدمت أمة عبد الرحمن دراسة حالة للنزوح المناخي من اليمن حيث تقول: أنه في أقصى شرق منطقة الحسيني بمديرية تبن في محافظة لحج تقع قرية كوكبان الصغيرة على ضفاف وادي خير حيث تتجسد ملامح الحياة الهشة التي يعيشها سكان الأرياف في الجنوب اليمني، تبدو القرية اليوم شبه منسية يقطنها قرابة ألف نسمة فقط بعد أن غادرت عشرات الأسر منازلها نحو المدن القريبة بحثًا عن مياه وسبل عيش أكثر استقرارًا.
رحلة الماء اليومية
في الصباح الباكر تخرج نساء القرية وأطفالها حاملين الأواني الفارغة يسيرون مسافة تقارب أربع كيلومترات باتجاه آبار قرية الدجينه المجاورة، في رحلة يومية شاقة لجلب الماء على ظهور الدواب يحملون ما يكفيهم ليوم واحد فقط ويعودون تحت شمس حارقة.
تعطل مشروع المياه الأهلي في القرية قبل أكثر من خمس سنوات ومنذ ذلك الحين يعيش السكان على أمل وعود لم تتحقق فيما الزراعة مصدر رزقهم الأول وقد تراجعت بشكل حاد مع نضوب المياه الجوفية وندرة الأمطار.
نزوح المناخ
مع قسوة الحياة وتفاقم الجفاف، اضطر كثير من سكان كوكبان إلى النزوح نحو مدن لحج النزوح هنا ليس بسبب الحرب كما في مناطق أخرى، بل بسبب المناخ فحين يجف الماء تجف معه سبل البقاء. ويصف الأهالي قريتهم بـ"المحرومة"، إذ تحولت إلى نموذج لمعاناة الريف اليمني في مواجهة التغير المناخي وتجاهل التنمية.
نداءات بلا استجابة
زار مركز أبين الإعلامي القرية مؤخرًا وسلطا الضوء على أوضاعها داعين المنظمات والسلطات المحلية إلى التدخل العاجل لحفر بئر ارتوازية وتشغيلها بالطاقة الشمسية فالمياه الصالحة للشرب باتت حلمًا بسيطًا يراود كل بيت في كوكبان.
وبحسب مركز أبين الإعلامي فإن معاناة كوكبان ليست فريدة إذ تعاني أكثر من 30 قرية في محافظتي لحج وأبين من أوضاع مشابهة منها (قرية معطاف واللحوج والقشعة وجحين والاريب وصندوق الشرقية وعابر وحبيل برق والطرية وادي حفا وحبيب الهارش والمحنابة والقُرية وقنفل وبئر الشيخ والكدهيه والراكة ولبو والديو والحفرة وعرآن ولمقطن والسيلة وغيرها) حيث الجفاف الشديد والنزوح الجزئي يتسعان عامًا بعد عام خاصة خلال هذا العام الذي شهد تراجعًا غير مسبوق في الأمطار.
أزمة تتجاوز قرية
ما يجري في كوكبان ليس مجرد أزمة مياه، بل مؤشر على أزمة أوسع تهدد المجتمعات الريفية في الجنوب اليمني فشح المياه وتغير المناخ يدفعان القرويين إلى الهجرة الداخلية تاركين خلفهم أراضيهم ومواشيهم، في موجة نزوح صامتة لا تلقى الاعتراف أو الدعم الكافي.
ويبقى السؤال المعلق كم من القرى ستجف بعد كوكبان قبل أن يتحول الجفاف إلى كارثة لا يمكن احتواؤها؟