تقرير: طه بقسماطي - السعودية
رحلتي لكشف أسرار "بحرية المهددة بالانقراض
مقدمة: شرارة الفضول
كل مشروع علمي عظيم يبدأ بسؤال. سؤالي كان بسيطاً في ظاهره، ومعقداً في جوهره: كيف حال "أبقار البحر" حقاً حول العالم؟ هذا الكائن البحري الضخم والمسالم، الذي يعتمد كلياً على مروج الأعشاب البحرية، يواجه تهديدات متزايدة في كل مكان. لكن دراسته عن قرب كانت دائماً تمثل تحدياً هائلاً. الطرق التقليدية، مثل الإمساك بها لوضع أجهزة تتبع، تسبب لها إجهاداً كبيراً، والمراقبة من القوارب لا تكشف إلا القليل عن حالتها الحقيقية. كنتُ أؤمن بأنه يجب أن تكون هناك طريقة أفضل، طريقة تمنحنا البيانات التي نحتاجها دون المساس بسلامة هذه المخلوقات الرائعة. من هنا، ولدت فكرة استخدام السماء كمنصة للمراقبة.
الفصل الأول: ثورة الدرون
قررتُ مع فريقي الدولي تبني تقنية كانت لا تزال في مهدها في مجال البيئة البحرية: طائرات الدرون عالية الدقة. لم يكن الأمر مجرد تحليق والتقاط صور. لقد قضينا شهوراً في تطوير منهجية علمية دقيقة. قمنا ببرمجة مسارات طيران محددة، ومعايرة الكاميرات لضمان دقة القياسات، وتطوير خوارزميات لتحليل الصور وتحويلها إلى بيانات قابلة للقياس عن "مؤشر كتلة الجسم" لهذه الحيوانات.
أتذكر جيداً اللحظة التي رأينا فيها أولى الصور الواضحة. كانت التفاصيل مذهلة. لم نعد نرى مجرد ظل في الماء، بل تمكنا من قياس طول الحيوان وعرضه بدقة مليمترية، وتقدير حالته الصحية. لقد كانت تلك اللحظة بمثابة فتح نافذة جديدة تماماً على عالمهم الخفي. أثبتنا أن هذه الطريقة ليست فقط آمنة وغير مؤذية، بل إنها تمنحنا بيانات أغنى وأكثر دقة من أي وقت مضى.
الفصل الثاني: رحلة عبر المحيطات
مسلحين بهذه التقنية، انطلقنا في رحلة طموحة امتدت عبر نطاق واسع من المحيطين الهندي والهادئ. لم تكن هذه مهمة فردية، بل كانت جهداً تعاونياً ضخماً مع باحثين محليين وخبراء في كل منطقة. من المياه الصافية للحاجز المرجاني العظيم في أستراليا، إلى السواحل الغنية في الخليج العربي، وصولاً إلى الشواطئ التي تكافح فيها مجموعات صغيرة من أجل البقاء في موزمبيق. في كل موقع، كانت طائراتنا تحلق، تجمع بصمت آلاف الصور التي شكلت معاً فسيفساء عالمية لصحة الأطوم.
الفصل الثالث: القصة التي روتها البيانات
عندما بدأنا في تحليل البيانات، ظهر نمط واضح لا يمكن تجاهله. كانت القصة التي ترويها الأرقام صارخة.
- فصول النجاح: في أستراليا، الإمارات العربية المتحدة، وقطر - وهي معاقل رئيسية للأطوم - كانت الصور تظهر حيوانات قوية وممتلئة. كانت هذه علامة واضحة على أن البيئة لا تزال قادرة على دعم تجمعات صحية ومزدهرة.
- فصول المعاناة: على النقيض تماماً، جاءت الصور من سواحل موزمبيق لتحكي قصة أكثر قتامة. كانت حيوانات الأطوم هناك هزيلة بشكل ملحوظ، وبدا عليها الإجهاد. كان الأمر أشبه بالنظر إلى مؤشر حيوي يكشف أن هذا النظام البيئي بأكمله يعاني، وأن هذه المجموعات الصغيرة على حافة الهاوية.
الفصل الرابع: البحث عن السبب والنتيجة
لم نكتفِ بوصف المشكلة، بل سعينا لفهم أسبابها الجذرية. باستخدام نماذج إحصائية متقدمة، قمنا بربط بياناتنا الصحية بمجموعة واسعة من العوامل البشرية والبيئية. وهنا كانت المفاجآت الكبرى:
- الضغط البشري: وجدنا علاقة سلبية قوية ومباشرة بين صحة الأطوم وما أسميناه "الجاذبية البشرية" - وهو مقياس يدمج الكثافة السكانية، وتطوير البنية التحتية الساحلية، والتلوث. ببساطة، كلما زاد النشاط البشري على الساحل، ساءت صحة الأطوم في المياه المجاورة.
- مفارقة الثروة: بشكل غير متوقع، اكتشفنا أن صحة الأطوم كانت أفضل في البلدان ذات الناتج المحلي الإجمالي الأعلى. تفسيرنا المبدئي لهذا هو أن الدول الأكثر ثراءً قد تكون لديها قدرة أكبر على تطبيق اللوائح البيئية، ومعالجة مياه الصرف الصحي، وإدارة النفايات، مما يخلق بيئة أفضل بشكل غير مباشر لهذه الكائنات، حتى لو لم تكن جهود الحماية موجهة لها خصيصاً.
- وهم المحميات: كانت إحدى أكثر النتائج إثارة للقلق هي أن مجرد وجود محمية بحرية لم يكن كافياً. وجدنا أن صحة الأطوم لم تتحسن بالضرورة داخل حدود المحميات الكبيرة. هذا يخبرنا أن التهديدات - مثل التلوث القادم من اليابسة أو شباك الصيد غير القانونية - لا تعترف بالحدود المرسومة على الخرائط. الحماية الحقيقية يجب أن تكون أكثر شمولاً وتكاملاً.
خاتمة: نداء من أجل المستقبل
إن عملي هذا، الذي أفخر به وبفريقي، هو أكثر من مجرد ورقة علمية. إنه شهادة حية على حالة محيطاتنا، ورسالة عاجلة مفادها أن صحة الكائنات البحرية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأفعالنا على اليابسة. لقد قدمنا للعالم أداة جديدة وقوية لمراقبة هذه "الحراس اللطيفة" لمروج الأعشاب البحرية. والآن، يقع على عاتقنا جميعاً - صناع سياسات، وعلماء، ومواطنين - استخدام هذه المعرفة لاتخاذ قرارات أفضل. يجب أن تتجاوز جهود الحماية مجرد رسم خطوط حول المناطق البحرية، لتمتد إلى إدارة شاملة لسواحلنا واقتصاداتنا. مستقبل "بقرة البحر" يعتمد على ذلك.